بدايةٌ مظلمة ظالمة للعام 2018. عتمتان في لبنان: واحدة تستوطن القلوب السياسية، وأخرى تستوطن البيوت المعيشية. الأولى جرجرت “أشلاءها” من خواتيم العام الراحل، أما الثانية فأشبه بمرضٍ مزمن يبدو أن الجسدَ الشعبي ما عاد متآخيًا معه بعدما انتشر في كلّ الأرجاءات وبات وجعُه يميل الى تمنّي “المتعايشين” معه (فعل التعايش يحمل القسر لا الطوع) القتلَ الرحيم على الاستمرار في استحمال آلامه.
ليس من باب التقليل من ظلامة ظلمة الشوارع الآيلة الى حلٍّ استُهلَّ لامركزيًا قبل أن تعود المركزية لتخنقه بكثيرٍ من الوعود الممرغة “بالفيول أويل”، ولكنّ العتمة السياسيّة وتحديدًا على خطّ بعبدا-عين التينة تبدو أكثر استفحالًا لدرجة استعصاء الحلول المركزيّة... واللامركزية.
مقطوعة كلّ الأسلاك الكهربائيّة بين بعبدا وعين التينة. الأزمة متفاقمة وتزداد تفاقمًا مع نأي كثيرين أو في أحسن الأحوال استسلامهم إزاء إصلاح الأعطال “الكيميائيّة” بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري. تبدو الأعطال أكبر من أن يصلحها إلا القضاء الذي يعتصم به الرجلان. ليس من عادات رئيس الحكومة سعد الحريري أن “يُضرِب” عن إصلاح مثل هذه الأعطال الجوهريّة التي تمسّ أسلاكَ العهد والدولة وتهددها بالانقطاع، لذا يتناهى الى كثيرين أن الرجل يعمل على تثبيت إمداداتها تحت الأرض في سبيل خفض حدّة “التوتر العالي” المُسرطِن للعلاقة بين عون وبري. بحذرٍ يتعاطى الحريري مع الملف كي لا “يلطشه” صاعقٌ كهربائي من أحد “عمودَي” السلطة في لبنان.
يأبى عون أن يمسّ بري بـ”عدّادات” الأحقية لضباط الـ94، فيما لا يتهاون بري مع إمكان المسّ بـ”عدّادات” التوقيع الثالث أو ما أسماه أمس “مداورة الأصول”. هي ليست العتمة الأولى في تاريخ الرجلين اللذين ما هادنا يومًا ولا تهادنا. أخطآ يوم تجاهلا أهمية “عمّال الصيانة” في علاقتهما التي كانت تتعطّل، ليس بين حين وآخر بل بين فينةٍ وأخرى لشدّة اطّراد العناصر الخلافيّة بينهما. بالكاد حظيت علاقتهما بإنارةٍ كاملة 24/24 يوم أصبح انتخاب العماد ميشال عون أمرًا واقعًا وبلغ الرجل قصر بعبدا بتصويتٍ أكثريٍّ في عقر دار الرئيس بري. تقبّل الأخير الأمر، وعمل على تخفيف “الأحمال” عن الشبكة التي كادت أن تنفجر بصراعاتهما السياسية والدستورية وحتى المعيشية وأبرزها قضيّة المياومين العالقة.
حتى الساعة، لم يتصاعد أيّ دخانٍ أبيض من القصرَين ليمحو الدخان الأسود الذي ينتشر في الأجواء من معملَي بعبدا وعين التينة الحراريَّين واللذين ترتفع فيهما حرارة الخلاف عوضًا عن حرارة التلاقي التي خيّمت على سمائهما الصافية في أشهر العهد الأولى. هكذا وببساطةٍ، وبفعل مرسوم ضباط “دورة عون” (دورة العام 1994) اختلّ “المجال الكهرومغناطيسي” بين عون وبري وهو الذي لم يكن يومًا مجالًا قويًا رغم كلّ محاولات الحليف المشترك (حزب الله) تكريس القوّة المغناطيسية في حقلٍ يبدو نزعُ ألغامِه أكثر صعوبةً من تنظيف الجنوب من ألغام العدوّ ومخلَّفاته.
في هذه الأزمة، لا يبدو أنّ أيّ “استجرارٍ” للحلول على متن باخرةٍ أو اثنتين سيجدي نفعًا أو ينير عتمة أحد القصرين. في هذه الأزمة، لا يبدو أن أيًا من “الفلاتر” التي يفتقدها معمل الزوق قد تصلح لتنقية الأجواء السياسيّة من ملوّثاتها الخلافيّة. في هذه الأزمة، لا حاجة الى عمّال “جباية وإكراء” إذ لن يكون لديهم ما يجبونه من القصرين سوى تمسّك سيّديهما بموقفيهما، ولكن متى طالت الأزمة قد تغدو لهؤلاء صنعةٌ على خطّ جباية الفواتير التي سيدفعها الضباط أولًا في حال إسقاط حقّهم في سنة الأقدمية، والناس ثانيًا في حال استمرّت السياسة النكائيّة التي لا تضيف سوى عرقلة الى يوميات شعبٍ معرقَل أصلًا مذ ولِد هنا.
في انتظار استنبات الحلّ واستنباطه على يد “إطفائيٍّ” لم يعتد تلبُّس هذا الدور ولكنه المخوّل الأيتم اليوم لإهماد حرائق “التكهرب” الدستوري-السياسي-الطائفي بين بعبدا وعين التينة، يعيش المتفائلون على بصيص ضوء وأمل بأن يكون سعد الحريري هو صاحب “مولّدات” الحلّ، بعد أن يضع “طاقته الإنتاجية القصوى” على الشبكة في سبيل زيادة ساعات التغذية بـ “تيار” التلاقي بين رجلين يبدو أن “طاقتهما”، رغم مقارعتهما العقد الثامن، ما زالت أقرب الى النبض... لا النضب!